كيف نقرأ وعد بلفور على حقيقته
إبراهيم المدهون
ماذا لو لم تحدث النكبة عام 48، ولم يُرحل شعبنا، ويُقام الكيان الصهيوني على أرضنا؟! لكان وعد بلفور مجرد وثيقة ساذجة خائبة لا يذكرها أحد وإن ذكرت تأتي في سياق التندر والتفكه كوعودات مكمهون للشريف حسين، ولسيق كدليل خيبة القوى الدولية والأطماع الصهيونية، ولكن للأسف النكبة والنكسة واحتلال بيروت وضياع القدس ووجود (إسرائيل) حتى يومنا هذا، وتطبيع الدول وهرولة الخليج جعلنا نتجرع مرارة هذا الوعد أضعافا مضاعفة، ويصبح تاريخ إصداره شؤما وألما لكل فلسطيني وعربي أصيل.
حقيقة ليست الإشكالية بهذا الوعد من وزير الخارجية البريطاني المخلص للصهيونية آرثر جيمس بلفور لعائلة “روتشيلد” اليهودية الغنية، بل المشكلة أعقد بكثير من هذا التسطيح، فليونيل روتشيلد هو المسؤول وزعيم الطائفة اليهودية في إنكلترا تقرب إليه كل من حاييم وايزمان أول رئيس لـ(إسرائيل) وناحوم سوكولوف ونجحا في إقناعه في السعي لدى حكومة بريطانيا لمساعدة اليهود في بناء وطن قومي لهم في فلسطين، ولم يتردد ليونيل بل سعى بالإضافة لاستصدار وعد بلفور إلى إنشاء فيلق يهودي عسكري داخل الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، وقام “جيمس أرماند روتشيلد” بجمع المتطوعين له ثم تولى رئاسة هيئة الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتولّى والده تمويل بناء المستوطنات اليهودية في فلسطين والمشاريع الاستعمارية ومنها مبنى الكنيست (الإسرائيلي) القائم حتى الآن في القدس.
تم إصدار وعد بلفور بعد تقديم عائلة روتشيلد مساعدة مالية ضخمة لإنكلترا التي كانت على وشك إعلان هزيمتها على يد الألمان، وكذلك أثرت عائلة روتشلد على الرأي العام الأمريكي بحكم ما تملكه من وسائل اعلام، وبالتالي وعد بلفور هو محصلة عمل صهيوني متواصل واستغلال الحالة السياسية المعقدة والتحولات الكبرى، ولم يكن وليد الاندفاع والعاطفة.
فإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين هو نتاج عوامل وأسباب أهمها الإرادة الدولية، والإصرار الصهيوني؟ والتشتت والضعف الفلسطيني بالإضافة لتراكم الخذلان والتآمر العربي.
وللأسف مازال الواقع الذي تسبب بقيام الكيان الصهيوني كما هو، فالإرادة الدولية متمثلة بالولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة تمد (إسرائيل) بالسلاح والحماية والشرعية، والخذلان العربي يزداد ويتعمق لتواطؤ وتآمر عربي معاد، وصل حد التطبيع والتنسيق والتحالف مع الاحتلال، بالإضافة للتشتت الفلسطيني بسبب منظمة التحرير وعملية التسوية واتفاق أوسلو المشؤوم، وتدمير المؤسسات الممثلة لشعبنا، ومحاربة المقاومة.
هذا الوعد لم يكن ليكتب له النجاح لولا التقصير العربي والفلسطيني، ولهذا علينا النظر لوعد بلفور بطريقة تقييمية، ولنجعل ذكراه وقفة أمام واقعنا الداخلي وعمقنا العربي، ومهما احتشدنا ضده ولعناه ونظمنا القصائد بذمه، فلن يتغير واقع السرطان الصهيوني المتمدد ولن تمحى آثار هذا الوعد الغادر.