في قلب الإبادة: هل أصبحت الحرب جزءًا من الروتين اليومي لأهالي غزة؟
د. فايز أبو شمالة يكتب:
خاب فعل إسرائيل، وخابت حساباتها في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وخابت سياسة الضغط والمزيد من الضغط التي اعتمدتها قيادة الصهاينة طوال أحد عشر شهراً من العدوان على غزة. فقد تأقلم أهل غزة مع الحرب، وراحوا يرتبون أيامهم وحياتهم ضمن معطيات الواقع القائم، غير مبالين بالقصف والموت والدمار والمحرقة الصهيونية. لقد بدأ طلاب الجامعات في غزة دراستهم عن طريق الإنترنت، وباستثناء الكليات العملية التي أجلت ساعات الدراسة، فقد استأنفت بقية الكليات والجامعات النظرية الدراسة. يسجل الطلاب ساعات العمل، ويمارسون القراءة تحت القصف، ويتقدمون للامتحانات بين القذائف الصاروخية، حتى أن بعض طلاب الجامعات استشهدوا وهم يتقدمون للامتحانات وسط التجمعات الشبابية التي تتحلق في المناطق التي يتوفر بها الإنترنت. لقد استشهدوا وهم يتقدمون للامتحانات الجامعية.
وقد بدأ طلاب الثانوية العامة الدراسة مبكراً، وبدأ بعض المدرسين بإعطاء دروس خصوصية عبر الإنترنت، بالإضافة إلى دروس وجاهية مرة أو مرتين في الأسبوع، رغم الدمار، ورغم انقطاع المياه والكهرباء، ورغم الأوضاع الأمنية المضطربة والأحوال المعيشية الصعبة. وبدأ بعض المدرسين في تنظيم حلقات دراسية لطلاب المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، في عملية تحدٍ وانطلاق حياة في وجه الموت الإسرائيلي.
أما التجار، فهم يمارسون حياتهم الربحية بلا توقف، وقد وفرت لهم الحرب طرقاً ووسائل ربح لم تخطر على بالهم. لقد استأسدوا على الناس، وتحكموا بالأسعار دون رقيب أو حسيب أو متابع، وهذه فرصة اغتناء سريعة. هؤلاء لا تشغلهم الحرب، ولا يعملون لقصف الطائرات حساباً، فالمال يشغلهم عن التفكير بالموت.
أما بالنسبة للمزارعين، فمن تمكن منهم أن يزرع أرضه وتوفرت لديه الطاقة ومصادر المياه، فقد اغتنى دون أن يدري، فأسعار الخضروات لم تخطر على بالهم. ما كان سعره 2 شيكل للكيلو، صار سعره 18 شيكل للكيلو. جاءت الفرصة الذهبية لأولئك المزارعين، في الوقت الذي حرم فيه الكثير من المزارعين والفلاحين والمشتغلين في الأرض من ممارسة حرفتهم بفعل العدوان الإسرائيلي المتواصل على أرضهم، وبحكم نزوحهم عن بيوتهم وأرضهم الزراعية.
وقد استأنفت المحاكم الشرعية في غزة أعمالها، وإن كان ذلك في أكشاك على الطرقات والشوارع التي نزح إليها الناس، فعقود الزواج والطلاق وما يشابه ذلك تجري إلى مستقر لها، ولم تتوقف حياة الناس في هذا الشأن.
هناك الباعة المتجولون وأصحاب البسطات على الطرقات، ويكاد هؤلاء يشكلون الأغلبية العظمى من المهن، فهم كثر، ولاسيما بعد اضمحلال وظيفة سائق سيارة أجرة والاستعاضة عنها بـ”الكارة” التي يجرها حمار، وذلك بعد انقطاع الوقود.
وقد يكون الموظفون في حكومة غزة وحكومة رام الله هم الأكثر تضرراً في هذه الحرب. الرواتب التي تصل من رام الله بعد خصم 20%، يصير الخصم عليها 20% أخرى لسماسرة البنوك، أولئك الذين استغلوا زحمة البنك الوحيد العامل في قطاع غزة، واستغلوا انقطاع السيولة، فراحوا يصرفون للموظف جزءاً من راتبه بنسبة خصم تصل إلى 20% من قيمة الراتب. أما موظفو غزة، فما زالت حكومة غزة تصرف لموظفيها ما يزيد قليلاً عن ألف شيكل شهرياً.
في المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، بدأت البلديات في العمل لتوفير المياه للناس، وتسليك مجاري الصرف الصحي التي دمرها الاحتلال، في عمل مضنٍ يدلل على التحدي والإرادة الصلبة.
المستشفيات والعيادات في غزة تعج بالمرضى، والأطباء لا يتوقفون عن العمل، والأسواق في خان يونس تكاد تكون كيوم الحشر من كثرة الناس الغارقين في البحث عن أرخص الأسعار، ولاسيما بعد أن صار سعر كيلو البندورة 5 دولارات، وهكذا صار سعر كيلو الخيار والبطاطس. السبب يرجع إلى دخول دبابات العدو إلى المناطق الزراعية بين خان يونس ورفح، مما أدى إلى انحباس المياه وجفاف المزروعات.
في غزة، هناك الأغلبية من الناس لا تمتلك قوت يومها، ولا دخل لهم، ولا مورد رزق، ولا مدخرات لديهم. هؤلاء وجدوا ضالتهم المعيشية من خلال الجمعيات الخيرية، ومن خلال الأونروا، ومن خلال من يقدمون وجبات الطعام الساخنة. هؤلاء المحتاجون يفتشون عن مصادر المياه، ويصطفون في الطوابير، وكل ما يشغلهم هو توفير لقمة الخبز وشربة الماء. آخر ما يجول في خاطرهم، وآخر ما يشغلهم هو الدبابات الإسرائيلية، وأين وصلت وأين تقدمت. لا ينتبهون لدوي الطائرات الإسرائيلية، ولا أين تحلق، ولا من ستقصف، فهم مشغولون بدوي البحث عن لقمة العيش.
هذه هي غزة التي ترفض أن تموت، وتصر على البقاء. ومهما كانت الحياة صعبة، فالناس في غزة من طينة تختلف عن بقية البشر. الناس في غزة تصنع يومها بالأمل، وتفترش ليلها بغدٍ خالٍ من الوجود الإسرائيلي الذي لا يحمل لأهل غزة غير الجوع والخراب وتلال من العذاب.