المرأة الغزّية.. جمل المحامل، وأيقونة الصبر والثبات

نجلاء عادل الصفدي
فُرضت على المرأة الغزّية حياة لا تُشبهها في زمن الحرب، واحتملت ظروفًا قاسية لا تقوى على حملها الجبال، واضطرت للقيام بدور الرجال بعد أن أصبحوا في عداد الشهداء أو الجرحى أو الأسرى أو المفقودين. ومع ذلك، استطاعت أن تتعايش مع كلّ ما واجهته من تحديات وصعوبات: من نزوح وتشريد، إلى إبادة وتجويع وحصار خانق، وفقد وحرمان.
منهنّ من قُصف منزلها وأُجبرت على العيش في خيمة، ومنهنّ من فقدت زوجها فكانت لأبنائها أمًا وأبًا، ومنهنّ من حُرمت من أبنائها فذاقت مرارة الفقد وتجرّعت ألم نزع الروح من الجسد، فلا طعم للحياة بدون أقمارها. ومنهنّ من اعتُقل زوجها أو فُقد أثره، ولا تعلم عنه شيئًا، ومنهنّ من فقدت كلّ أهلها فبقيت وحيدة بلا سند.
ذات يوم التقيت بإحدى جاراتنا خلال الحرب، وبدأت تسرد لي كيف فقدت جميع أفراد أسرتها في مجزرة بشعة. تحدّثت بقلب يملؤه الحزن والألم على فُقدان أعزّ الناس إلى قلبها، وروت لي أهوال المجازر التي عاشتها في أحد مراكز الإيواء، حيث خرجوا تحت وابل النار ومرّوا من بين جثامين الشهداء، وسط شلالات الدماء التي غطّت ممرات المدرسة. وصفت تفاصيل موجعة لا تُنسى. وبعد عامٍ على تلك الحرب، لحقت بأهلها بعد ارتقائها شهيدة برفقة أبنائها في غارة إسرائيلية غادرة على منزلها.
تعددت صنوف العذاب التي ما زالت تُقاسيها المرأة الغزّية، ومن الصعب حصرها. فكلّ قصة نسمعها أو ترويها لنا إحداهنّ، تمزّق نياط القلب من شدّة ما يُكابدن.
في الحرب، اضطرت المرأة الغزّية للنزوح مرارًا وتكرارًا، فاضطرت للعيش في خيمة أو مركز إيواء يفتقر للخصوصية والأمان. وأُلقيت على عاتقها مسؤوليات جسيمة في ظل تغيّر بيئة العيش، وسط عائلات تختلف في العادات والتقاليد وحتى في أساليب تربية الأبناء، مما اضطرها لبذل جهد مضاعف لحماية أبنائها، وتوعيتهم، ومتابعة سلوكهم، والحفاظ على صحتهم ونظافتهم، خشية الإصابة بالأمراض في ظل تفشي الأوبئة واكتظاظ أماكن النزوح.
وكان من أشدّ ما تُعانيه المرأة الغزّية تأمين احتياجات أسرتها الأساسية من غذاء وملابس وأغطية ومستلزمات ضرورية لا غنى عنها. ولكن في ظل الحصار الخانق على القطاع وندرة الموارد، كثيرًا ما اضطرت إلى قطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام لتوفيرها من الأسواق، وإن وُجدت، فبأسعار باهظة تتجاوز قدرتها على الشراء.
ومع تصاعد خطر المجاعة، وقفت في طوابير التكيات لتأمين وجبة طعام واحدة في اليوم. واضطرت للانتظار ساعات طويلة تحت لهيب الشمس الحارقة للحصول على المساعدات. وفي ساعات الفجر الأولى تبدأ يومها بجلب المياه بجالونات ثقيلة، وجمع الحطب بشقّ الأنفس لإشعال النار، التي باتت ضرورة في ظل انعدام غاز الطهي. ومع انقطاع الكهرباء، باتت تغسل كميات كبيرة من الملابس يدويًا، وتعمل لساعات طويلة بلا توقف، مما أثّر على صحتها الجسدية.
لقد تعمّد الاحتلال الإسرائيلي في حربه الأخيرة أن يُعدم كلّ مقومات الحياة في غزة، ما أجبر المرأة الغزّية على التأقلم مع حياة بدائية قاسية، يتطلبها واقع لا يرحم، فرض عليها أن تكون صلبة المراس، إذ دون ذلك لن تتمكن من الاستمرار. ضحّت براحتها وصحتها ووقتها لأجل أبنائها، وكابرت على ألمها من أجل سعادتهم.
ولم تكن المرأة الغزّية بمنأى عن آلة الحرب الإسرائيلية، فقد طالتها الاستهدافات المتواصلة التي لم تميّز بين شيخ وطفل وامرأة ورجل. وتعمد الاحتلال المجرم قصف النساء في منازلهن، وفي المخيمات، ومراكز الإيواء، لتكنّ النسبة الأعلى بين عشرات الآلاف من الشهداء. فكانت من بينهن الصحفية، والطبيبة، والمعلمة، وربّة المنزل، وغيرهنّ كثير.
كانت وما زالت المرأة الفلسطينية “جمل المحامل”، وأيقونة الصبر والثبات، والعزيمة التي لا تلين، وقدوة لكلّ نساء العالم. فهي مصنع الرجال، ومربية الأجيال، ولها دور عظيم في ترسيخ حب الوطن في قلوب أبنائها، وتنشئتهم على حفظ كتاب الله منذ الصغر. لا تُضعفها الشدائد والمحن، بل تزيدها إصرارًا وقوة.