مقالات

في أسباب الغضب التركي من الاحتلال الإسرائيلي

ماجد عزام
عبرت تركيا عن غضبها من التسريبات الصحفية الإسرائيلية التي زعمت اشتراط تل أبيب قطع علاقات أنقرة مع حركة حماس لتحسين ورفع مستوى العلاقات بين البلدين، إثر الشروع في حوارات تمهيدية عبر قنوات أمنية لاستكشاف كيفية تحقيق ذلك.

التسريبات بدت ممنهجة ومتعمدة، وتضمنت تفاصيل عما أسمته الصحافة العبرية خلايا تابعة لحماس تقوم بالتخطيط لعمليات عسكرية ضد إسرائيل من تركيا، كما تنفيذ هجمات سيبرانية ضد الدولة العبرية ودول عربية مثل الإمارات والسعودية.

التسريبات تجاوزت الصحافة العبرية لتصل حتى إلى الصحافة الإنجليزية، ولكن عبر مراسل إسرائيلي لصحيفة “التايمز” (أنشيل بيفر) في 26 كانون الثاني/ يناير؛ زعم اتخاذ تركيا خطوات لتبريد العلاقة مع حماس والتضييق على عناصرها، لدرجة منع أحدهم من الدخول وإبعاده عن الأراضي التركية. ورغم أن المراسل الإسرائيلي ادعى اقتباسه من الصحافة التركية المعارضة، إلا أن هذه الأخيرة لم تقم أبداً بنشر أشياء من هذا القبيل.


تبدو أهداف التسريبات أو الألاعيب الدعائية الإسرائيلية، كما تصفها مصادر تركية (موقع ميدل إيست آي– 31 كانون الثاني/ يناير) واضحة تماماً، وتتضمن أبعادا ثنائية وإقليمية، وحتى دولية تتعلق بعلاقة الجانبين مع الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن.

في الأبعاد الثنائية نحن أمام شيطنة للسياسة التركية واتهامها بدعم الإرهاب، لنفي الصفة عن إسرائيل نفسها، ومن جهة أخرى ممارسة ضغوط نفسية وإعلامية على تركيا قبل الانتقال من القنوات الأمنية إلى طاولة التفاوض العملي من قبل السياسيين المعنيين، كما في الدول الديمقراطية، مع الانتباه طبعاً إلى أن إسرائيل ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب، كما يقول أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948.

هنا نلمس أيضاً ابتزازا إسرائيليا موصوفا لتركيا لانتزاع تنازلات منها أو حتى لتبرير عودة العلاقات فيما بعد؛ بادعاء تقديم تنازلات تركية في قضية وهمية غير موجودة أصلاً.


تسعى إسرائيل كذلك إلى التأثير على الموقف التركي من حركة حماس، ومحاولة دق إسفين بين الجانبين عبر الزعم بأن حماس تستخدم الأراضي التركية للتخطيط، وحتى تنفيذ هجمات ضد إسرائيل ودول عربية خارج الأطر والقواعد والأسس التي تحكم العلاقات بين تركيا وحماس.

كما تسعى إسرائيل للتأثير على الموقف التركي من القضية الفلسطينية بشكل ، السيادة والاستقلال وتقرير المصير وفق الشرعية والمواثيق الدولية ذات الصلة.

إلى ذلك، ثمة محاولة خبيثة لتأجيج الخلافات بين تركيا ودول عربية أيضاً عبر ترويج مزاعم تنفيذ حماس هجمات ضدها انطلاقاً من الأراضي التركية.

أما إقليمياً فتسعى تل أبيب لتصوير حماس وكأنها مصدر للخطر وعدم الاستقرار والتأثير سلباً على العلاقات بين الدول، وأن المشكلة لا تكمن في الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، واستمرار الاحتلال ما يشكل بحد ذاته سبب لعدم الاستقرار والتوتر في المنطقة، وإنما في تصرفات وسلوك حماس التي تملك الحق المشروع بالمقاومة ضد الاستعمار الإسرائيلي غير الشرعي لفلسطين.

في الأبعاد الدولية، ثمة رسالة إسرائيلية إلى الاتحاد الأوروبي لتصليب وتشديد موقفه في الحوارات والمفاوضات حول تحسين العلاقات مع تركيا، ووضع بند دعم الإرهاب على أجندة المفاوضات، خاصة مع عمل إسرائيلي مدعوم غربياً لترويج تهم مماثلة في سوريا وليبيا، رغم أن تركيا في الحقيقة ضحية الإرهاب، وهي من تحاربه جدياً وعلى كل الجبهات.

غير أن الرسالة الإسرائيلية الدولية الأهم موجهة طبعاً للإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن، لوضع هذا الملف على أجندة علاقاتها المركبة والصعبة مع القيادة التركية والضغط عليها في هذا الملف أيضاً.


ثمة ما ينسف الألاعيب الإسرائيلية من أساسها ويتمثل برواية الحرب السيبرانية الحمساوية ضد الدولة العبرية ودول عربية أخرى. هنا أيضاً ثمة خبث إسرائيلي لجهة وضع تل أبيب نفسها في سلة واحدة مع الرياض وأبو ظبي ضد حماس، والحقيقة أن الحركة لا تملك خلية كهذه في إسطنبول ولا في عموم تركيا، وهو أمر ما كان ليمر على السلطات والأجهزة التركية المعنية والحركة الإسلامية لا تملك أصلاً قدرات عالية تسمح لها بخوض حرب سيبرانية عالمية فائقة التقنية ضد الدولة العبرية، وهي تفعل ذلك بقدرات محدودة وفي سياق دفاعي بغزة.

وبالتأكيد حماس ليست في حالة حرب الكترونية ولا غيرها مع الدول العربية بما فيها السعودية والإمارات، ولم يحدث أبداً أن تم توجيه اتهامات للحركة بخوض حرب كهذه حتى من الرياض وأبو ظبي رغم بعض السجالات السياسية والإعلامية التي لا يمكن وصفها بالحرب أصلاً.

أما الخلية المعنية التي تتحدث عنها إسرائيل فتضم أسرى محررين (أعرفهم شخصياً وبعضهم عاد إلى مقاعد الدراسة) يقومون بنشاطات ذات طابع إعلامي إنساني وخيري لخدمة قضيتهم العادلة وحقهم المشروع في العودة إلى وطنهم، علماً أن إسرائيل هي من قامت بإبعادهم إلى تركيا ضمن صفقة تبادل الأسرى التي تعرف بصفقة جلعاد شاليت، واستقبال تركيا لهم كان تعبيرا عن دعم قضيتهم العادلة، كما لإنجاح الصفقة وإخراجها إلى النور.

تجب الإشارة طبعاً إلى أن تركيا، كما قال الرئيس رجب طيب أردوغان مراراً وتكراراً، لا تمانع من حيث المبدأ في تحسين العلاقات، وأن قنوات أمنية تمهيدية فتحت بين الجانبين، لكن المشكلة هي مع “رأس القيادة في إسرائيل” حسب التعبير الحرفي لأردوغان.

كما سمعنا تصريحات تركية عديدة من الرئيس ووزير الخارجية مولود شاويش أوغلو؛ تفيد بأن إصلاح العلاقات مرتبط بتحسين إسرائيل علاقاتها مع الفلسطينيين. أما الموقف التركي الداعم للقضية الفلسطينية العادلة فمفروغ منه، كما العلاقات مع حماس بصفتها حركة سياسية شرعية تتمتع بتأييد شعبي معتبر وفازت بالانتخابات التشريعية السابقة وستنافس في اللاحقة أيضاً، كما أن دولا عدة تقيم علاقات علنية معها.


في العموم، ربما تعبر التسريبات عن وجود تيار في إسرائيل لا يريد عودة العلاقات مع تركيا، لكن هذا غير دقيق، وأعتقد أن الأمر ممنهج ومتعمد ويشير أساساً إلى أن تل أبيب ليست في عجلة في أمرها، وعندما تحسم أمرها سيكون هناك حوار مباشر مع أنقرة في الغرف المغلقة بعيداً عن التسريبات والضغوط، أو التفاوض عبر وسائل الإعلام وسياسة ميغافون (الصراخ والصوت العالي) كما أسماها ذات مرة روعي غلعاد، القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية في تركيا.

وفي كل الأحوال، في الجهة المقابلة ثمة ثقة سياسية وإعلامية في أنقرة مفادها أن لا تأثر من التسريبات والألاعيب الدعائية؛ كون تركيا تعرف أنها دولة قوية مركزية في المنطقة. وإسرائيل تعي هذه الحقيقة جيداً، خاصة أن العلاقات غير مقطوعة أصلاً، ورغم الخلافات هناك تبادل اقتصادي معقول ومعتبر يدار أساساً من قبل القطاع الخاص، وتحسين العلاقات مرتبط بتغيير السياسة الإسرائيلية الحالية تجاه الفلسطينيين. ولا شك أن الأجواء الإقليمية التي أشاعتها إدارة جو بايدن ستساعد على ذلك، ضمن سياسة الانفتاح والتهدئة التي ستسود المنطقة في الفترة المقبلة.

أخيرا، واضح أن ثمة رغبة متبادلة ولو نظرية حتى الآن لتحسين العلاقات أو تهدئة التوتر على الأقل لمناقشة الخلافات والتباينات. ويمكن القول إن العربة وضعت على السكة، والنوايا اتضحت عبر تعيين السفراء من قبل البلدين، حيث اختارت إسرائيل سفيرتها السابقة في بلغاريا “إيريت ليليان”، وهي خبيرة مطلعة وداعمة لرفع مستوى العلاقات مع تركيا، كما اختارت أنقرة بدورها “أفق أولوطاش”، وهو أكاديمي شاب درس في إسرائيل ويتحدث العبرية بطلاقة وداعم أيضاً لعودة العلاقات، ولكنه داعم قوي جداً أيضاً لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ما يؤكد بوضوح وبما لا يدع مجالاً للشك أن أي تقدم وتطور محتمل في العلاقات لن يكون على حساب الدعم التركي للشعب الفلسطيني والعلاقات مع القوى والجهات السياسية الشرعية الحية والمؤثرة والفاعلة في الساحة الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى