مقالات

رحيلُ قامة شامخةٍ اسمها “أبو بكر”

الدكتور نواف التكروري

حاولتُ جاهدًا أن أكتب كلمةً قصيرة أنعى وأرثي بها أخي وشقيق روحي ونفسي وحبيب قلبي الأخ الشيخ أبو بكر حسين العواودة رحمه الله تعالى وأحسن إليه وأكرم وفادته عليه.

ولكن كيف لمثلي أن يكتب عن الشيخ “أبو بكر” بعد صحبة استمرت ما يقارب ثلاثين عاماً من الأخّوة والمحبّة والعمل المشترك والصّحبة الدّائمة، ولو أنّني أردت أن أكتب مجلداً عن هذا العَلَم الذي أصبنا بفقده وفراقه فلا يكفي.

لقد تعرّفت إليه في مرج الزهور في الإبعاد الذي كان محنةً عظيمةً في قلبها منحٌ جليلةٌ ومن هذه المنح لقائي بالشّيخ الحبيب “أبو بكر”.

كما عملنا معاً في سوريا ولبنان وتركيا فكان نعم الرّفيق في درب الحياة ونعمَ الزميل على رواحل الجهد والعطاء، وكنّتُ أجالسه في لقاءِ علمٍ مرّة أسبوعيًّا على الأقل، وبيني وبينه من التوافقات الكثير الكثير، فإنني أشعر اليوم أني فقدت جزءاً من نفسي وذاتي وليس فقط أخاً حبيباً وعزيزاً، أشعر أني منقوص الذات بفقد “أبو بكر” رحمه الله تعالى ولا أقول إلا ما يرضي الله تعالى وإنا لله وإنا إليه راجعون

تتملكني الحيرة فماذا عساي أكتب؟! هل أكتب عما سمعته من الأخوة الذين عرفوه وعايشوه قبلي وعرفوا جهاده المباشر ضد العدو الصهيوني وصموده وثباته وصبره في سجون الغاصبين كالطود العظيم والجبل الراسي لا تهزه العواصف ولا تنال منه أمواج البحار وإنما تتحطم على أطرافه، فما أخذ منه الصّهاينة كلمة تسرهم ولا حصلوا على معلومة تفتح لهم سبيلاً إلى غيره من إخوانه المجاهدين، وتعطي نشوة لمحقق يريد أن يستعلي على غيره بقدرته على استخراج ما عجز غيره عنه.

أم أكتب عما سمعته منه عن فقده لبصره بالتدريج بسبب السجن في زنزانة مظلمة لمدة طويلة وهو الذي كان يعاني من مرض في عينيه، أدى احتجازه في زنازين الصهاينة ومنع العلاج عنه إلى فقده الرؤيا، فما لانت قناته ولا انكسرت عزيمته حتى ظنوه يخادعهم بدعوى فقد البصر، وما علموا أن هذا الصبر ديدنه وسجيته، فكانوا يقولون له أنت مدع لفقد البصر فأنت تبصر أكثر منا، فيقول لهم إن شاء الله، وبالفعل كانت له بصيره وهم إن ملكوا بصراً فقدوا البصيرة الهادية؛ ألا لعنة الله على المحتلين الغاصبين.

أم أكتب عن جهاده وإقدامه بعد أن فقد بصره وصار على قائمة المعذورين من الجهاد لقوله تعالى (ليس على الأعمى حرج)، ولكنه بقي مجاهداً في كل أنواع الجهاد وصوره، ويدعو ويربي ويحرض ويساعد بكل صور الجهاد وألوانه.

وكل هذا مما علمته وسمعته ممن عاشوا مع الشيخ وتتلمذوا على يديه قبل الابعاد.

أم أكتب عن عهدي به في مرج الزهور وصبره وثباته رغم ظروفه الصحية بلا شكوى ولا تردد.

أم أكتب عن دعوته إلى الله تعالى، وحمله لراية التبشير والتحريض والتربية والإعداد لمشروع الجهاد ومقاومة الغاصبين، منذ خروجه من فلسطين إلى يوم وفاته حيث حل وأينما أتيح له.

فأكتب عنه بصفته داعية غيور على دينه مدرك لخطوات بناء الأجيال وتربية النشئ، محبباً بالقضية التي يحمل، متقناً للحض على الالتفاف حولها، منطلقاً في مخيمات ومدن سوريا ولبنان، وبعد ذلك في الأردن وأخيراً في تركيا بلا كلل ولا ملل ولا تردد بل مسافراً في أرجاء الأرض من مشارقها إلى مغاربها، يزور البلاد يحرض ويحرك الأمة لتحمل راية الجهاد والدفاع عن الأقصى والحرمات فبنى الجيل وربَّى النشء على كتاب الله تعالى وسنة رسوله ومعاني العزة والتشوق للجهاد ذوداً عن الحياض ودفاعاً عن المقدسات، وما  أظن شاباً صالحاً في مخيمات سورية ولبنان إلا ويعرف الشيخ وتتلمذ عليه وقرأ عليه القرآن وسمع لحديثه عن فلسطين ودور الشباب في نصرتها واستخلاصها من بين الصّهاينة المجرمين.

لبنان التي كان يأتي لمخيماتها مع مرافق يقوده ويساعده في الطريق، يحبه مرافقوه ولكنّهم أحياناً لا يستطيعون مواكبة جلده ونشاطه، فيستعين ببعض من يدرسهم لينوبوا مقام مرافقه ليستريح ويبقى هو دون أن يذوق طعم الرّاحة كما لو أنّه آلة لا يحتاج أن يستريح.

كان يخرج إلى لبنان فيغيب عن أسرته وبيته الأسبوعين والثلاثة والشهر ثم يعود أياماً يسيرةً أو يومًا واحدًا ثم يتوجه إلى حلب أو حمص أو اللاذقية، أو جولة عليها جميعاً تستغرق أسبوعاً بلا كلل ولا ملل ودون أن يشكو تعباً، وما كنت والله أقدر على جلده واستمراره فكنت أرافقه أحياناً وأتخلف عنه أخرى.

أم أكتب عن رعايته للشباب وحفظه لأسمائهم وقصصهم وظروفهم، وحاجاتهم وإشكالاتهم في بيوتهم فيدخل في كل شأن يخدمهم ويحل مشاكلهم ويتابع رعايتهم وتوعيتهم وتدريسهم، فما رأيت متابعاً في ذاكرته فهو لا يكتب ولا يسجل وإنما يحفر ذلك في ذاكرته فيذكرنا بقصة فلان، وحاجة الأسرة الفلانية بتفصيلها، ودائماً أقول للإخوة في الحافظة والذاكرة والوقائع ذاكرتي تبعٌ لذاكرة الشيخ “أبو بكر”، وما أدراك ما الشيخ يعيد لك الواقعة ولو مضى عليها أشهر وسنون كأنما هي الآن، يعرف تفصيلاتها ووقائعها.

وما زلتُ إلى ما قبل وفاته رحمه الله وأنا إذا احترت بشأن حادثة نسيتها وما أكثر ما أنسى أرجع إليه فهو القيد بلا تقييد وهو الذاكرة التي لا تفرط بشيء، فقد فقدت بفقد الشيخ ذاكرتي وسجلي الذي يشهد بالحق ولا يحيد.

أم أكتب عن عبادته وتعظيمه لشعائر الله تعالى وعدم انشغاله بشيء عن الحفاظ على الشعائر فرائض ونوافل، صلاة وصياماً وصدقة وإحساناً، وتلاوة للقرآن وذكراً وتسبيحاً، كنت أحاول في أسفارنا أن أكون سابقاً للدعاء فلم أستطع أو مذكراً بالمأثورات والأذكار فلم أسبقه إليها، وأنسى ويذكرني والمشاركين بها وهو الذي أتم حفظ القرآن قبل أشهر وهو في الستين من عمره وحضرنا حفلة سنده عن الأخ المجاهد المحرر أبو المثنى فقال بعد أن قرأ الشيخ ولم يخطئ، قال هذا حال الشيخ قلما يخطئ في القرآن فهو يقرأ الجزء من القرآن لا تحصي له خطأً واحداً.

وهو الصوام القوام المحافظ على الجماعة لا تفوته، وإن اختلف مع مساعديه وهو الذي يكرمهم ويحترمهم فلتأخرهم عليه على صلاة الجماعة فجراً أو ظهراً وغيرهما، هذا ما يزعجه ولا يزعجه فوات شيء من متاع الدنيا.

أم أتحدث عن دعابته وروحه المرحة وخفة ظله، وانعدام تحسسه فمن في مثل ظرفه فقد البصر كثيراً من الأحيان يرتفع منسوب تحسسهم، فأما الشيخ فيفسر كلام إخوانه ومواقفهم على أفضل الوجوه، يقبل العذر ويقيل العثرة، ويتجاوز عن المخطئ، دائم الابتسامة والنكتة اللطيفة صافي القلب إن غضب أو أغضب، سهل إرضاؤه فيقبل العذر ويقيل العثرة لكرم أخلاقه وصفحه وبعده عن سوء تفسير المواقف والوقائع.

ويتعالى على آلام الجسد وابتلاءات الحياة وظلمتها بفقد البصر، ومن يراه لا يظنه إلا مبصراً ولا يكاد أحد يستمع إليه ويعامله دون المسير إلا ويظنه بل يوقن بأنه مبصر، أسأل الله تعالى أن يكون الآن قد أبصر وفتح عينيه ورأى من أحبهم واجتهد أن يتمثل خطاهم، محمداً صلى الله عليه وسلّم وآله وصحبه وأتباعه ومن ساروا على خطاه من الصالحين والمجاهدين الشيخ أحمد ياسين والدكتور الرنتيسي والاستشهاديين ومن قضوا قبله بهذا الداء وغيره مع أبو محمد حسن ترشيحاني، وأبو خالد أسامة جبر وجموع إخوانه وأحبابه من الصالحين والمؤمنين ممن عرفهم ومن لم يعرفهم فيتعرف عليهم وكان يحب التعارف، ولي وله قصة مع بدعية التعارف.

أم أتحدث عن تبنيه لشؤون الضعفاء والفقراء والمظلومين وسعيه في خدمتهم ومراجعته الدائمة بشأنهم بلا ييأس ولا يضجر، فما علم أن مظلوماً أو ضعيفاً في حاجته إلا وسعى في نصرته بما أمكنه وحمل مظلمته يطرق بها الأبواب ويحذر عاقبة الظلم، ويصدح بكلمة الحق ويقولها صريحة واضحة المعالم ولا يخاف في الله لومة لائم.

أم أتحدّث عن شهامته ومروءته ومواقفه التي لا يستطيعها إلّا الرّجال حقًّا، ومن ذلك صبره العجيب عند فقده ولده بحادثة دهس وشهامته مع السّائق ورفضه القاطع أن يتمّ توقيفه، أم أحدّثكم عن رحمته بأهله وصلته أرحامه ووصله إخوانه فلا تكاد تجد مريضًا إلّا زاره أبو بكر، ولا تجد صاحب مناسبة اجتماعيّة إلّا كان أبو بكرٍ السّابق إلى زيارته منّهئًا في الأفراح ومواسيًا في المصائب

أنا لا أستطيع أن أعدد الأبواب التي يمكن أن أكتب فيها عن الشيخ، فضلاً عن أن أفصل القول فيها، فما والله ما من باب ذكرته إلا وفيه عشرات وربما مئات القصص والحوادث والوقائع التي تدل على تفاني الشيخ في حمل ما اقتنع به من مشروع وخروجه من حظ نفسه إلى حظ دينه وأمته، كانت كلمة الله هي العليا في نفسه، وأشغل نفسه في العمل لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض وما توانى ولا تأخر لحظة بل عمل بجهد مجموعة دون مبالغة، ولعلّنا اليوم بحاجةٍ إلى طاقمٍ من عشرة رجال في محاولةٍ لسدّ الثّغرة التي تركها أبو بكرٍ وراءه

إلى رحمة الله ورضوانه يا شيخ “أبو بكر” ويا أخي الحبيب أسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يكرم نزله ويحسن وفادته وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة. وأن يجمعه بمن أحب ممن مضى فما أحب إلا في الله أصاب أم أخطأ، فلا يبحث لحظوظ دنيا ولكن يحب من ظن فيه صلاحاً وهو حسن الظن بالناس دائماً

وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا بكر لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا – كما كنت دائماً- فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اللهم نقه من ذنوبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارفع درجته وأحسن إليه واجمعه بمن سبقه من أحبابه، ولا تحرمنا اللهم أجره ولا تفتنا بعده واغفر اللهم لنا وله ولجميع المسلمين وإلى الملتقى بإذن الله تعالى على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، حينما كان يكثر أن يقول للشاربين والمتوضئين من زمزم ومن الكوثر إن شاء الله.

وفي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى