حلم أردوغان منذ 27 عاماً.. تعرف على قصة “مسجد تقسيم” الذي سيُفتتح الجمعة في إسطنبول (شاهد)
في مقطع فيديو قديم ونادر يعود لعام 1994 يظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان قد استلم لتوه منصب رئيس بلدية إسطنبول آنذاك وهو يجري لقاء صحافياً من على سطح إحدى البنايات قرب ميدان تقسيم السياحي وسط إسطنبول، وقبل نهاية اللقاء يؤشر أردوغان بيده اتجاه إحدى زوايا الميدان ويقول للصحافيين: “سوف أبني مسجداً هناك”.
مقطع الفيديو هذا بقي لسنوات طويلة بعد تصويره بداية عام 1994 مثاراً للسخرية والانتقادات من قبل شريحة واسعة من العلمانيين الكماليين في تركيا الذين كانوا يتمتعون بقوة أكبر في الدولة في ذلك الوقت وكانوا يعارضون هذا المشروع بقوة، ووصفوا كلام أردوغان على أنه “أحلام غير واقعية لن تتحقق على الإطلاق”.
وبالفعل وعلى مدار عقود، عملت جهات مختلفة من خلال وزارة الثقافة والجمعيات والنقابات وبتساهل من القضاء التركي على افشال عشرات المحاولات لبناء المسجد، وأصدر القضاء أكثر من مرة قرارات تمنع بناء المسجد وتحظر أي عمل في هذا الاتجاه وجاب ملف “مسجد تقسيم” العديد من المحاكم لسنوات طويلة وصولاً لمحكمة التمييز، وسيقت العديد من المبررات لمنع هذا المشروع منها ما يتعلق بأسس الجمهورية والعلمانية والسياحة والثقافة والتاريخ والآثار وغيرها.
وفي المكان الذي أشار إليه أردوغان تحديداً، ولكن بعد 27 عاماً كاملة، استطاع الرئيس التركي من تحقيق رؤيته وحلمه ببناء هذا المسجد الذي بقي مثاراً للجدل السياسي والقانوني والاجتماعي في البلاد على مدى العقود الماضية التي شهدت تحولات هائلة في البلاد، استطاع خلالها أردوغان من الوصول من منصب رئيس بلدية إسطنبول عام 1994 إلى البرلمان ورئاسة الحكومة وأخيراً رئاسة الجمهورية وبنظام رئاسي يمنحه صلاحيات مطلقة في البلاد، ونجح في بسط تغييرات جوهرية في شكل وعقيدة الدولة.
ويرى أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم والعديد من أتباع الأحزاب المحافظة والجماعات الدينية في تركيا أن بناء المسجد في تقسيم يعتبر بمثابة “انتصار” يحمل رمزية كبيرة، فيما ينظر كثيرون لنجاح أردوغان في بناء المسجد رغم التحديات الضخمة التي واجهته في هذا المشروع على أنه “تعبير عن حجم الإرادة السياسية التي يتمتع بها أردوغان، وإيمانه بمشروعه السياسي، ونجاح أسلوبه في تمرير جميع ما يريده من خلال التدرج”.
وبين عام 1994 تاريخ وصول أردوغان لأول مرة إلى رئاسة بلدية إسطنبول وعام 2021 شهدت تركيا تحولات سياسية واجتماعية كبرى كان أبرزها تراجع التيار العلماني واليساري في البلاد مقابل صعود التيار المحافظ والقومي بزعامة أردوغان بشكل تدريجي، قبل أن تنعش الصعوبات الاقتصادية التي مرت بها البلاد مؤخراً آمال المعارضة بإمكانية الوصول إلى الحكم وإنهاء قرابة عقدين من حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة عام 2023.
ومن المقرر أن يشارك أردوغان في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان (الجمعة المقبلة) في افتتاح المسجد الذي بدأ العمل على إنشائه عام 2017 في حفل متواضع خشية إثارة المعارضين للمشروع ليصبح واحداً من أهم رموز ومعالم ميدان تقسيم أبرز المعالم السياحية في تركيا والعالم ويزوره ملايين السياح سنوياً.
ويوجد في ميدان تقسيم نصب تاريخي ضخم لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، كما يوجد فيه مركز أتاتورك الثقافي، وكان الميدان مسرحاً دائماً لاحتجاجات النشطاء العلمانيين واليساريين المناهضين لحكم أردوغان لا سيما أحداث غيزي بارك عام 2013 التي كان مشروع بناء المسجد أحد أسبابها، وكادت أن تؤدي لإسقاط حكومة أردوغان آنذاك حيث وصف الرئيس التركي تلك الأحداث آنذاك بأنها “محاولة انقلابية”.
وصُمِّم المسجد على مساحة تقارب 1500 متر مربع، ويتسع لنحو 950 شخصاً، ويضم قاعةً للمؤتمرات ومكتبة، فيما صممت المآذن على ارتفاع 30 متراً وهو الارتفاع المساوي لارتفاع كنيسة تاريخية مجاورة، وطوال السنوات الماضية حرص أردوغان على زيارة المسجد وتفقد أعمال البناء مراراً لإظهار مدى اهتمامه بالمشروع الذي يوصف في تركيا على أنه كان “حلماً كبيراً تحول إلى حقيقة”.
ويعتبر بناء مسجد تقسيم أبرز خطوات أردوغان في هذا الاتجاه بعد الخطوة الكبرى التي أقدم عليها العام الماضي بإعادة فتح مسجد آيا صوفيا للعبادة بعد عقود من تحويله إلى متحف، وبناء مؤخراً مسجد “تشامليجيا الكبير” على أعلى مرتفع على الجانب الآسيوي المطل على مضيق البوسفور، وهو المسجد الأكبر في البلاد الذي يتسع لعشرات آلاف المصلين ويمكن رؤيته من معظم أحياء المدينة التي تتميز بمساجدها وتعتبر من أكثر مدن العالم التي تضم مساجد في بلد يوجد به قرابة 85 ألف مسجد.
وإلى جانب الجدل السياسي والقضائي، تحول الموضوع طوال السنوات الماضية إلى مادة للجدل على المستوى الشعبي ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي بين المؤيدين والمعارضين لبناء المسجد، حيث يقول المؤيدون إن المنطقة السياحية الهامة لا يوجد بها أماكن عبادة كافية للمسلمين، ويضطر الكثير من المواطنين والسياح لأداء الصلوات لا سيما صلاة الجمعة في أزقة المنطقة السياحية.
في المقابل، يرى المعارضون أن مشروع المسجد هو محاول لإضفاء صبغة دينية أكبر على إسطنبول وميدانها المركزي، إلى جانب إضعاف مكانة نصب أتاتورك التذكاري الأبرز في الميدان وضمن خطة متكاملة يهدف من خلالها أردوغان إلى نزع مكانة أتاتورك من الشعب التركي، بحسبهم.
وفي محاولة من أردوغان لامتصاص غضب المعارضين ومنع إثارتهم، تجنب إطلاق أي تصريحات حول المسجد واكتفى بزياراته المتكررة له، كما أمر بالتزامن مع بداية بناء المسجد بإعادة بناء مركز أتاتورك الثقافي المقابل له ليتحول إلى مركز ثقافي ضخم وبتصميم عالمي نادر يضم دارا للأوبرا.
ويجمع مؤيدون ومعارضون على أن مسجد تقسيم يعتبر مثالاً كبيراً لسياسة أردوغان التي ترتكز على تمرير ما يريد تدريجياً وتجنب الصدام مع الإرث السياسي والاجتماعي الصعب في البلاد، حيث استطاع الرئيس التركي أن يغير شكل البلاد تدريجياً بدءاً من بلدية إسطنبول عام 1994 وصولاً لتولي حكم البلاد عام 2003 وصولاً للنظام الرئاسي عام 2018، فيما يواصل مساعيه لتحقيق ما أطلق عليها “رؤية 2023”.