المدخل للإصلاح الفلسطيني
يبدو أن نقطة البداية لإصلاح البيت الداخلي الفلسطيني مرتبطة بمحددين أساسيين؛ أولهما البدء بمنظمة التحرير الفلسطينية، وثانيهما وجود قيادة انتقالية موثوقة قادرة على إيجاد الشروط الموضوعية والبيئة الجادة والفعالة لإنجاح مسار الإصلاح.
منذ أن فازت حماس في انتخابات 2006، وتم تعطيل قدرتها على العمل في قيادة الحكومة أو في إطار المجلس التشريعي، وبالتالي حدوث ما عُرف بـ”الانقسام” وسيطرة حماس على قطاع غزة… منذ ذلك الوقت والاجتماعات والورش والمؤتمرات وحلقات النقاش لا تنقطع، في محاولة “إنهاء الانقسام” وإصلاح البيت الفلسطيني. وقد قام مركز الزيتونة بعمل العديد من الفعاليات والدراسات في هذا الإطار.
غير أن أحد أبرز الورش التي شارك فيها كاتب هذه السطور، والتي امتدت على شكل جلسات دورية لأكثر من ثلاث سنوات (خصوصاً الفترة 2010-2012) كانت تلك التي أشرف عليها مركز مسارات، وشاركت فيها نخبة من داخل فلسطين وخارجها؛ محسوبة على فتح وحماس والجبهات الشعبية والديمقراطية وغيرها من الفصائل، بالإضافة إلى عدد من الخبراء والمستقلين.
وكانت إحدى أبرز الخلاصات التي تم الوصول إليها أن المدخل الأنسب لإصلاح البيت الفلسطيني يبدأ بمنظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تستوعب مكونات وقوى الشعب الفلسطيني، وتتم إعادة بناء وتفعيل مؤسساتها على أسس ديمقراطية، وبحيث يتم من خلالها صناعة القرار الفلسطيني المستقل بعيداً عن هيمنة الاحتلال.
وقد كُلِّف في حينها الزميل الدكتور جميل هلال بكتابة مذكرة حول هذا الموضوع، وقام بالفعل بإعدادها. وطوال نحو 13 عاماً تتكرر النتيجة نفسها عند عمل أي دراسات موضوعية أو لقاءات معمقة للخبراء والمتخصصين.
في المقابل، ثمة إصرار عجيب وطوال السنوات الماضية من محمود عباس وقيادة منظمة التحرير والسلطة (قيادة فتح)، على التركيز على تشكيل حكومة “وحدة وطنية” أو حكومة “توافقية” للسلطة الفلسطينية، مع تضييع أو تمييع أي برامج إصلاحية أخرى. وبالرغم من اضطرار حماس والقوى الفلسطينية للتجاوب مع إصرار عباس وقيادته؛ فإن عملية تشكيل الحكومة بحدّ ذاتها كانت عملية متعثرة، وكانت خلاصتها تشكيل فتح للحكومة أو هيمنتها عليها، وعدم إمكانية مشاركة وزراء من حماس أو من المحسوبين عليها، لأنها يجب أن تتوافق مع شروط أوسلو ومعايير الرباعية الدولية، وفق القراءة الواقعية لقيادة السلطة. هذا بالإضافة إلى قيام هذه الحكومة (حكومة رام الله) بتنفيذ سياسات على الأرض تستهدف المقاومة، وتسهم في التضييق على قطاع غزة، وتمنع ممارسة المجلس التشريعي لدوره، لأن الأغلبية الساحقة الممثلة لإرادة الشعب الفلسطيني في هذا المجلس هي لحماس. أي أن هذه الحكومة كانت تنفذ على مدى 14 عاماً سياسات مخالفة أو على خصومة مع الجهة التي يُفترض أن تحاسبها، وأن تأخذ شرعية تشكيلها منها.
بالرغم من الفشل المريع لقيادة عباس والسلطة في إدارة الشأن الفلسطيني؛ وبالرغم مما رأته بعينيها من حالة السخط والغليان في الشارع الفلسطيني إثر تعطيلها للانتخابات ومسار المصالحة؛ وبالرغم من الحالة البائسة من العزلة السياسية والانحسار الشعبي التي وجدت هذه القيادة نفسها فيها، إثر معركة “سيف القدس” والمواجهات في القدس والضفة الغربية وأرض الـ1948؛ والأداء البطولي للمقاومة التي توحدت خلفها جماهير الشعب الفلسطيني… بالرغم من ذلك كلّه، فإن قيادة السلطة عادت هذه الأيام لتتحدث عن حكومة “وحدة وطنية” وفق شروط أوسلو أو ما تسميه “الشرعية الدولية”.
هل من المعقول أن هذه القيادة لم تصلها حتى الآن رسالة الشعب الفلسطيني في أنها فقدت الثقة والمصداقية، وأن تكرار الأساليب ذاتها في إعادة إنتاج الفشل مرفوضة بكل اللغات والتعبيرات؟ وإذا لم تصلها، فكيف ومتى ستصلها؟! أم أنها ما تزال تراهن على العكازات العربية والدولية في “إعادة تأهيل السلطة” ومسارات التسوية، ليستمر الفلسطينيون في معاناتهم من كوارثها؟
من ناحية ثانية، فإن الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية كمدخل للإصلاح لم يعد كافياً؛ إذ إن رصيد التجربة أثبت أن هذا المدخل لا يتحقق إلا من خلال قيادة انتقالية موثوقة قادرة على إيجاد الشروط الموضوعية لنجاح إعادة البناء والإصلاح، واستيعاب مختلف القوى والفصائل والكفاءات والخبرات الفلسطينية، ضمن بنية مؤسسية تشريعية وتنفيذية فعالة، تُعبِّر عن إرادة الشعب الفلسطيني، وتتولى الترتيب لانتخابات حقيقية شفافة، ونقل سلس للسلطة، وتضمن وصول الإجراءات إلى نهايتها.
التجربة البئيسة التي خاضها الشعب الفلسطيني مع قيادة السلطة والمنظمة الحالية، والتي “تكلّلت” بتعطيلها للانتخابات، بناء على الحسابات الانتخابية لعباس وحركة فتح “الرسمية”، كانت تأكيداً حاسماً (معززاً بنماذج عديدة على مدى سنوات طويلة) أن هذه القيادة لم تعد مؤتمنة على أي حالة تغيير أو تطوير جادة، وأن هذه القيادة تنظر للأمور بمنظور حزبي مصلحي؛ وبالتالي فهي غير راغبة في المضي قدماً في أي عملية انتخابية نزيهة شفافة يمكن أن تنتقص من هيمنتها على منظمة التحرير أو السلطة.
هذه القيادة هي المسؤولة بشكل أساس عن حالة الانهيار والتردي التي شهدتها منظمة التحرير ومؤسساتها طوال سنوات تفردها بقيادتها، ولذلك فلا يمكن الركون لهذه القيادة وشبكة مصالحها ومنظومتها الفاسدة، لأن النتيجة هي مجرد إعادة إنتاج الفشل من جديد.
فلتكن هذه القيادة الانتقالية هي الإطار القيادي المؤقت أو جهة ناشئة عنه، وليوضع مدى زمني محدد لانتهائها من أعمالها. غير أنه من الضروري أن تكون قيادة دينامية فعالة، قادرة على اتخاذ القرار وإنفاذه على الأرض. ولا يجب أن يكون الحرص على الروح التوافقية سبباً في أن يقوم البعض بتعطيل المسيرة أو وضع العصي في العجلات، كما أن بعض القوى الفصائلية الصغيرة (مع الاحترام للجميع) لا ينبغي أن تمارس “ديكتاتورية الأقلية”، وأن تحترم الإرادة الغالبة للشعب الفلسطيني؛ هذا، مع حقها الكامل في التمثيل بحسب حجمها، وفي الاستفادة من خبراتها وطاقاتها وإمكاناتها.
إن النموذج المطلوب مدخلاً للإصلاح الفلسطيني قريب من ذلك الذي حدث في الفترة كانون الأول/ ديسمبر 1967 – شباط/ فبراير 1969، عندما استقالت قيادة المنظمة، وتولى يحيى حمودة قيادة مرحلة انتقالية انتهت باستيعاب الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها فتح، وإعادة بناء منظمة التحرير ومجلسها الوطني وانتخاب قيادة فلسطينية جديدة.
ولذلك، فإن ثمة تلازم في مدخل الإصلاح بين القيادة الانتقالية وبين البنية المؤسسية التمثيلية الفلسطينية (المنظمة)، ولم يعد بالإمكان الحديث النظري عن المنظمة فقط، دون توفير الحد الأدنى لمستلزمات نجاح إجراءات التنفيذ وجديتها.