التهديدات الأمريكية.. فشل للسلطة وصعود للمقاومة
ماجد أبو دياك
ورغم إدراك الإدارة الأمريكية والاحتلال عدم جدية التهديدات التي يطلقها عباس، وأنها مجرد تهديدات لفظية كلامية لا تستند إلى بدائل حقيقية، إلا أن تهديده الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالعودة إلى قرار مجلس الأمن رقم 181 (قرار التقسيم)، واللجوء إلى محكمة العدل الدولية للحسم في شرعية وجود الاحتلال، إذا لم تنسحب “إسرائيل” من الأراضي المحتلة خلال عام، استدعى رداً غير مسبوق من الرئيس الأميركي جو بايدن لم يقف عند حد مطالبته بالتوقف عن هذه التهديدات، وإنما أيضا باستبدال حكومة محمد اشتية الحالية بحكومة تكنوقراط “مهنية وفعالة تحظى بالاحترام والإيفاء بالالتزامات الدولية فيما يتعلق بالحريات العامة” وذلك كشرط لاستمرار التعامل معه!
أما الشرط الثالث فكان أن لا تشمل حكومة التكنوقراط حماس إلا وهي مُعترفة بشروط الرباعية، رغم أن عباس سبق أن وضع هذا الشرط على حماس للمشاركة بحكومة الوحدة الوطنية التي يدعو إليها كبديل عن الانتخابات التي أسقطها ودفنها بيديه.
فشل الرهان
ويفتح التهديد الأمريكي من خلال الشروط التي نقلها هادي عمرو مبعوث بايدن إلى عباس خلال لقائه معه برام الله الباب واسعاً للتكهن برغبة أمريكية في التخلص من عباس والتمهيد لبديل له في المرحلة القادمة التي تتطلب مرونة أكثر في التعامل مع الحلول الاقتصادية المطروحة!
كما أن التجاهل الأمريكي للحل السياسي وتركيزه على تحسين الوضع الاقتصادي، يؤكد فشل رهان السلطة الفلسطينية إمكانية إنجاز أي حل سياسي قائم على أساس حل الدولتين، وأن كل ما جرى من مفاوضات وتنازلات قدمتها السلطة الفلسطينية مقروناً بتفانيها في خدمة المحتل بالتنسيق الأمني ضد الشعب الفلسطيني ومقاومتها، لم يشفع لها عند الاحتلال والإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ولم تقدم إدارة بايدن الديمقراطية على أي خطوة سياسية تتناقض مع عمليات الهدم التي نفذها الرئيس السابق دونالد ترمب من خلال صفقة القرن ونقل السفارة الأمريكية للقدس.
ويبدو أن هذه الإدارة، حسبما أفادت مصادر فلسطينية، تسعى إلى تعيين رئيس وزراء فلسطيني مستقل وغير منتم لحركة فتح، وترشح لذلك سلام فياض.
وكان لافتاً للانتباه تحركات فياض وإجراؤه لقاءات مختلفة في الساحة الفلسطينية بما في ذلك زيارته لغزة ولقائه مع حماس لتأمين دعم له، من خلال وعود قدمها بأنه يستطيع إنهاء أزمة السلطة المالية والسياسية باستجلاب الدعم الأمريكي والأوروبي وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة.
غير أن فياض لم يقل لنا لماذا يتمتع هو دون غيره بهذه الإمكانات، وما المطلوب منه لكي يحظى بالدعم الأمريكي في مواجهة فساد المحسوبين على عباس!
ويبدو أن سلام فياض يراد له أن يكون حصان طروادة لهذا الحل الاقتصادي، على أن يجري تصعيده لخلافة أبو مازن الذي بلغ 84 عاماً ولا يزال يطالب بالحل السياسي الذي كان هو أحد مهندسيه في اتفاق أوسلو في ظل القيادة الفلسطينية الحالية.
الواضح أن إدارة بايدن التي لم تتمكن حتى الآن من إطلاق عملية التسوية وفقاً لمبدأ الأرض مقابل السلام وحل الدولتين، وعجزت وستعجز مستقبلاً عن الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإطلاق المفاوضات، تريد التغطية على هذا الفشل من خلال التركيز على الحلول الاقتصادية والتي تحدثت عنها حكومة بينيت التي كررت مواقف الرفض لمبدأ الدولتين.
ويأتي الموقف الأمريكي من عباس رغم أنه عاد عن موقفه السابق بتجميد الاتفاقات مع الاحتلال بمجرد تسلم الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن الحكم في الولايات المتحدة، معولاً على وعودها لينتهي به المطاف غير مرغوب به أمريكيا وبدون أن يتحقق حتى الآن وعد فتح القنصلية الأمريكية في القدس!
وقدمت واشنطن بالفعل مساعدات اقتصادية محدودة، وأوكلت للاحتلال مهمة إنقاذ السلطة من أزمتها السياسية والاقتصادية بتقديم قرض بقية 155 دولار للسلطة، وزيادة عدد العمال الفلسطينيين المسموح لهم بالدخول إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وإصدار تصاريح لـ15 ألف عامل!
ولم تكن هذه الخطوة لتتم لولا تخوف الإدارة الأمريكية من فشل السلطة الفلسطينية أمام حركة حماس بعد معركة سيف القدس، ومقتل الناشط الفلسطيني نزار بنات، ما أدى إلى انفضاض كبير للشارع عن هذه السلطة، والمطالبة بإسقاطها، فضلاً عن مطالبة عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين باستقالة عباس.
وقد عبر المبعوث الأمريكي هادي عمرو عن فشل السلطة حينما شبهها بغابة جافة على وشك الاشتعال.
ولا يبدو التقدير الأمريكي بعيداً عن الواقع إذ أظهرت الاستطلاعات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية تراجع مكانة السلطة الفلسطينية وتقدم حماس على فتح وهنية على عباس.
ابتزاز أمريكي وتدخل فج
إن ابتزاز الإدارة الأمريكية لعباس يعبر عن تدخل فج في الساحة الفلسطينية، ومحاولة لفرض خيارات سياسية عليه، ولكن هذا الابتزاز لم يكن ليجد له فرصة للنجاح لو أن السلطة كانت ملتحمة مع شعبها في تصديه للاحتلال كما حصل في هبة القدس وسيفها، وصمود أهالي الشيخ جراح، والتصدي الفلسطيني للاحتلال في قرى الضفة والقدس. إذ إن هذه السلطة جعلت من التنسيق الأمني بقرة مقدسة، وتصدت لمقاومة الشعب الفلسطيني بكل الوسائل التي أتيحت لها، لتصبح منفصمة عن الشعب، ومكتفية بالدعم الذي تتلقاه من متنفذي حركة فتح.
وهكذا فإن هروب عباس من احتمال فوز حماس بالانتخابات جعله وسلطته يواجهان ضغوطاً أمريكية لتنصيب شخص يكون بديلاً عنه ربما حتى قبل وفاته، وقد يضعف فرص مقربيه بوراثته، ويشعل صراعاً لا يعرف مداه خصوصاً بعد رحيله.
إلا أن الضرر الأكبر قد يلحق بالقضية الفلسطينية التي ستظل رهينة للتدخلات الخارجية التي تحاول فرض مسار سياسي ثبت فشله وعبثيته، وبما قد يؤدي إلى فقدان البوصلة السياسية، واستمرار اشتغال السلطة بالتنسيق الأمني الممجوج، وانقسام متجذر أساسه الخلاف في الرؤى السياسية.
صعود فلسطيني وتقهقر صهيوني
غير أن الشعب الفلسطيني اختط مساراً عكس الاتجاه الذي تسير فيه السلطة، خصوصاً بعد معركة سيف القدس، وبطولة أسرى نفق الحرية، وبطولات بيت عنان ومخيم جنين، ويتجه نحو أخذ زمام المبادرة بنبذ مشاريع التسوية، والتصدي للاحتلال ومخططات الاستيطان والتهويد بالوسائل المتاحة، وتقديم نماذج متجددة للبطولة والفداء، مدعوماً بذلك من فصائل المقاومة في غزة والضفة.
إن منحنى الصمود الفلسطيني الصاعد ونماذج البطولة والفداء المتجددة، مقابل الهزائم المتكررة الميدانية للكيان، وتقهقره على الصعيد الذاتي والداخلي في ضوء التشكيل الحكومي الجديد وحجم التناقضات فيه، فضلاً عن تراجع نفوذ داعمه الرئيسي الولايات المتحدة في المنطقة بعد الانسحاب من أفغانستان، سيؤدي إلى تراجع وتآكل تدريجي للمشروع الاستعماري الصهيوني على الأرض الفلسطينية.
ويضع هذا على قوى المقاومة مسؤولية كبيرة لالتقاط اللحظة التاريخية والبناء عليها، عبر اختراق الساحة ببرنامج وطني شامل يقود المرحلة ويحدد معالم النضال، ويعتمد المقاومة بكل أشكالها لمواجهة الاحتلال، ويعزز عوامل صمود الشعب الفلسطيني في وجه محاولات الاقتلاع والاستيطان والتهويد، ويؤكد مركزية القدس في الصراع، والتمسك بحق عودة اللاجئين.
من الأفضل أن يجري التوافق على البرنامج الوطني تحت سقف منظمة التحرير، ولكن إنجاز هذه المهمة قد يوجه عقبات داخلية وخارجية، الأمر الذي قد يستدعي المضي بهذا البرنامج من دونها حتى لو تخلفت بعض القوى عن ذلك، فاستمرار النضال لا يشترط تحقق الوحدة وإن كانت مطلباً وغاية، فالفعل المقاوم المستمر سيؤدي بالضرورة إلى عزل المتخلفين وكيانهم مهما تمتع بالدعم، ولنا في تجارب الشعوب خير دليل.