الشامخات برغم القهر والألم!
رانيا نصر – باحثة دكتوراة في الإعلام السياسي
ما أن وضعَتْ الحربُ أوزارها، وما أنْ هدأ رَوعُ العالم لما يحدث في غزة الأبيّة؛ إلا وشخصت الأبصار نحو شموخ تلك المرأة الصابرة المحتسبة ولدَها عند الله شهيداً، فلم ينفكّ لسانُها عن قول “الله يرضى عليك يا إمي، الله يرضى عليك يا إبراهيم”، ولم يسكن قلبها لحظة عن الدعاء له بأنْ يتقبّله الله عنده في الشهداء.
زفّته للحور العين وهي مبتسمة راضية حامدة شاكرة لفضل الله وأنعُمه عليهم؛ لأنّ يقينها بأنّ ما اختاره الله لهم هو الأفضل مِن دنيا لا تسوى عند الله -في أحسن أحوالها- جناح بعوضه!.
أما عن الفارس “إبراهيم” وإخوانه؛ فما كان لهم أن يترجلوا عن صهوة الجهاد ودرب النضال والكفاح إلا بصعودهم في مراتب الرضا، وأعلى تلك المراتب هي مرتبة الشهادة في سبيل الله، هي الشهادة التي لا تُبسط لأي أحد، لا تُبسط إلا لمن ينتقيهم ربُّ العزة لكرامة الشهادة، قال تعالى: “وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّلِمِينَ” آل عمران: 140.
نعم، الاتخاذ هو الاصطفاء للخلود في مقام الكرامات التي لا تُمنح إلا لمن طلبها بصدق وإخلاص، هي للكرار لا للفرار.
وما كان هذا؛ لولا التربية الصالحة على الدين والمبادئ والقيَم والأخلاق منذ نعومة الأظفار، وعلى حب الوطن والذود عنه بكل غالٍ ونفيس، رفضاً للظلم ودفاعاً عن الحق وإيماناً بالاستحقاق، وذلك كله ما يُحقق معنى الارتقاء في مراتب العبودية الحقيقية والكاملة لله فكراً وسلوكاً.
أما “أم إبراهيم”؛ نموذج المرأة الفلسطينية المُضحيّة الرّاسخة بإيمانها وعقيدتها ويقينها، المتبصرة بحقائق الأمور، والتي تعلم جيداً هدفها وغاية وجودها في هذه الحياة، وهو إعداد جيل التحرير، جيل تربّى على أنّ النّفس وإن غَلت وعلت قيمتُها عند الله؛ فهي رخيصة رخيصة في سبيله، وأنّ الرّوح فداء دون منّة أو رياء.
أما عن تلك الابتسامة؛ التي أذهلتنا جميعاً عن فهم واستيعاب كُنه السعادة التي سَكَنَتْ وسَكّنَتْ روح ووجدان “أم إبراهيم”، وقتلت فزعها عن التّسخط على قدر الله وقضائه، هي كرامة أخرى من جملة الكرامات التي ينعم الله بها على مَن يشاء من عباده، هذه الابتسامة هي رصاصات مُدوية تخترق قلب العدو وتغيظه وتقهره، قال تعالى: ” مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” الفتح: 29 ، نعم ليغيظ بهم الكفار، تلك العبادة التي يجهلها الكثير من المسلمين، وتكاد تندثر بتقادم الزمن وبتآمر الدول على قضايا الشعوب المكلومة والمظلومة، أقرّها الشارع في نصوص القرآن، عبادة “الإغاظة” يجب أن تُمارس على أنها عمل صالح وعبادة يؤجر صاحبها، حيث يقتضي الواجب الإيماني إحياؤها في النفوس لضرورتها وأهميّتها ودورها الحساس في النكاية بالعدو؛ ومن أهم أساليب النكاية والإغاظة؛ هذه الابتسامة الجسورة التي تكسر كبرياء المُحتل وتدحض استعلاءه، وفي نفس الوقت تشعل جذوة الأمل في نفوس المسلمين، فابتسمن أيتها الشامخات بقدر ما في قلوبكن من إيمان ويقين بقرب الانتصار؛ وتحقيق وعد الله للمؤمنين.
أما نساء فلسطين؛ أيتها الشامخات برغم القهر والألم، يا وقود الحماسة والأمل، أيتها المقاومات بصمودكن أمام غطرسة الغاصب المحتل، أيتها المربيات الفاضلات، اللواتي غرسن الشجاعة وحب التضحية في نفوس الشباب، والفضيلة والإباء في نفوس البنات، لولاكنّ لما خرجت لنا هذه الأسود مدافعة بعنفوانها عن كل ذرة في هذه الأرض، مُقبلة غير مدبرة، لا تخش الآلة الإجرامية، واصلن المسير أيتها المجاهدات، يا صانعات الرجال والهامات ويا شاحذات الهمم، ويا قاهرات المحن، علمونا معنى الصمود في زمن ماتت فيه معاني البطولة والكرامة.
يا نساء فلسطين؛ أنتن الرقم الصعب في زمن الخور، زمن تقاعست فيه كثير من النساء عن أداء أدوارهن الحقيقية في تنشئة جيل صالح مُصلح في نفسه وفي مجتمعه، واصلن مسيرة جهاد رسولنا الحبيب وصحابته والتابعين ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين.
يا زوجة الشهيد، ويا أم الأسير، ويا ابنه المعتقل، ويا أخت المفقود، برغم كل تلك المحن وما زلتُن تؤمن بأن رسالتكن في الحياة لن تنتهي إلا بتحرير فلسطين أو بالشهادة، ذرونا نقتبس من رهج شموخكن قبسة عز ترشدنا للطريق فلا نحيد، اللهم دُلّنا على الطريق، اللهم إنا راضون عنك فارض عنا ورضّنا بأقدارنا واجعل أعمارنا وأعمالنا خالصة لك وحدك، وارزقنا النصر القريب أو شهادة على أعتاب المسجد الأقصى واستخدمنا فيما تحب وترضى ولا تفتنا بعد من رحل، اللهم ارض عن نساء فلسطين، وعن نساء المسلمين جميعاً.