جرعات اللقاح المختلفة بين النهج الطبية المتغيرة والتحور المستمر للفيروس
أثرت جائحة كوفيد-19 بشكل كبير على البشرية، حيث أصاب الفيروس قرابة 200 مليون شخص وأودى بحياة أكثر من 4 ملايين إنسان، إضافة إلى خسائر اقتصادية عالمية تقدر بنحو 4 تريليونات دولار.
بجانب هذه التبعات المباشرة والآنية، هنالك أيضا تداعيات طويلة الأمد، إذ يؤثر فيروس كوفيد-19 على صحة الأفراد المصابين والمتعافين، خاصة أولئك الذين ظهرت عليهم أعراض شديدة، إلى جانب ما يسببه من اضطرابات في الصحة النفسية نظراً للقيود الاجتماعية المفروضة للحد من تفشي العدوى.
ويزداد هذا الوضع سوءا مع تحوّر فيروس سارس-كوف-2 الأصلي، وظهور سلالات جديدة تتسبب في زيادة معدل انتشار المرض وتداعيات مرضية أكثر خطورة نتيجة لموجات العدوى الجديدة، وارتفاع معدل الوفيات وفرض القيود المرتبطة بمواجهة تفشي فيروس كوفيد-19.
وقد ألقت هذه التبعات بوجه عام بظلالها على منظومة الرعاية الصحية في العالم، ولذلك بذلت الأوساط العلمية جهودا مكثفة في جميع أنحاء العالم للتوصل إلى حلول تواجه بها هذه الجائحة العالمية.
ويأتي تطوير اللقاحات كأحد أهم الحلول المرتقبة لمعالجة أزمة كوفيد-19 من أجل حمايتنا من هذا المرض، حيث طورت في الواقع العديد من اللقاحات باستخدام منهجيتين: هما التقليدية التي تستعمل إما فيروساً ضعيفاً وإما بروتينات فيروسية، فضلاً عن المنهجية المستحدثة التي تستخدم الحمض النووي الريبي والتي تعبر عن البروتين الفيروسي (mRNA)، وكلتاهما متاحتان منذ أواخر العام الماضي.
وقد أظهرت هذه اللقاحات مستويات عالية جدا من الحماية ضد فيروس كوفيد-19، على الرغم من بعض التباين الذي ظهر خلال التجارب السريرية. وقد كشفت دراسات لاحقة أن هذه اللقاحات تحمي أيضاً من سلالات فيروس سارس-كوف-2، بما في ذلك متحور دلتا، ومع ذلك تُواجه العديد من البلدان مشكلة تتعلق بتوفير الكميات الكافية من اللقاحات التي تلبي حاجة مجتمعاتها.
ويرجع هذا إلى حد كبير إلى محدودية القدرات الإنتاجية للقاحات، فضلا عن مدى إمكانية إتاحتها في العيادات الطبية. لذلك تبنت بعض البلدان سياسة تأخير الجرعة الثانية من اللقاح من أجل تحصين شريحة أكبر من السكان، مما أثار بعض المخاوف بشأن فاعلية اللقاحات في الوقاية من المرض.
ولكي نعالج هذه المشكلة يحتاج المرء إلى أن يفهم كيفية عمل اللقاحات، حيث تحاكي اللقاحات الفيروسات الفعلية عبر تحفيز جهاز المناعة بجسم الإنسان لكي ينتج ما يُسمى بالخلايا اللمفاوية التائية والبائية، أي “الذاكرة المناعية”. وفي حين أظهرت اللقاحات المختلفة استجابة مناعية من خلال آلية محددة، فإن إنتاج الخلايا المناعية هو ما يجعل الفرد بمأمن من المرض عندما يصاب بالفيروس أو بأي مرض آخر.
ويستغرق تطوير الاستجابة المناعية تجاه اللقاح حوالي أسبوعين، بما في ذلك اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبي، وفقا لإحدى الدراسات التي نشرت مؤخرا في دولة قطر.
إضافة إلى ذلك تختلف الفترة الزمنية للوصول إلى المناعة بين اللقاحات تبعا للتباين في آلية تحفيز اللقاحات لجهاز المناعة. علاوة على ذلك ربما تتطلب الكثير من اللقاحات بعد الاستجابة المناعية الأولية للجرعة الأولى (أي الجرعة الرئيسية) أخذ جرعة ثانية (جرعة معزِزة) لتطوير إمداد ثابت بخلايا الذاكرة المناعية لتوفير حماية أطول من المرض.
فعلى سبيل المثال، يتطلب كل من لقاحي “فايزر-بيونتك” و”موديرنا” اللذين يعتمدان على الحمض النووي الريبي ولقاح أكسفورد “أسترازينيكا” إعطاء جرعتين، في حين يتطلب لقاح “جونسون آند جونسون” أخذ جرعة واحدة فقط.
كما تبيَّنت أهمية التوازن بين الوقت اللازم لجهاز المناعة للاستجابة للقاح وتطوير الذاكرة المناعية، أي إنتاج خلايا الذاكرة المناعية التائية والبائية في تطوير سلسلة مستمرة من خلايا الذاكرة من أجل حماية من المرض لفترة أطول. وفي حالة استجابة الجهاز المناعي بسرعة كبيرة، فلن نحتاج إلى وقت طويل لتطوير الذاكرة المناعية.
وبالعودة إلى مسألة الفترات الزمنية المُقترحة بين الجرعتين في اللقاحات التي تتطلب جرعتين، فمن الضروري الالتفات إلى محدودية البيانات المتاحة باستثناء بيانات التجارب السريرية للمرحلة الثالثة المتوفرة حالياً.
فعلى سبيل المثال وفرت جرعة واحدة من لقاح “فايزر-بيونتك” حماية بنسبة 52% ضد كوفيد-19، في حين أن الجرعة الثانية التي أعطيت بعد ثلاثة أسابيع رفعت مستوى الحماية إلى 95%.
وأشار تحليل آخر أُجري كجزء من المسح البريطاني لعدوى كوفيد-19 إلى أن كلاً من لقاحي “فايزر-بيونتك” وأكسفورد “أسترازينيكا” وفرا حماية بنسبة 60% تقريباً بعد الجرعة الأولى، وحماية تقترب من 80% بعد الجرعة الثانية. بينما تكشف دراسة أخرى أن لقاح أكسفورد “أسترازينيكا” يوفر حماية بنسبة 76% بعد 22 يوماً من الجرعة الأولى، وترتفع هذه النسبة إلى 81% بعد الجرعة الثانية التي تُعطى بعد 12 أسبوعاً من الجرعة الأولى.
وتشير دراسة حديثة جدا أجراها مجموعة من العلماء من جامعة أكسفورد، ومن ضمنهم مجموعة لقاح أكسفورد لكوفيد–19، إلى أن إعطاء جرعة ثانية من لقاح أكسفورد “أسترازينيكا” بعد 10 أشهر يرفع نسبة الأجسام المضادة إلى أعلى معدل، وهو مؤشر على الحماية التي يوفرها اللقاح، مع ضرورة الانتباه إلى أن الحد الأدنى من هذه النسبة المئوية أو تركيز الأجسام المضادة المطلوب لتطوير الحماية من كوفيد-19 غير معروفين حتى الآن.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التحليل الخاص بالأرقام المتعلقة بالفترات الزمنية أو زيادة الفترة الفاصلة بين جرعتي اللقاح غير متوفر في ما يتعلق باللقاحات الأخرى، ويعزى هذا الأمر بدرجة كبيرة إلى قصر الفترة الزمنية التي توفرت فيها هذه اللقاحات.
إلا أن هذا الأمر قد يصبح أكثر وضوحا مع إجراء المزيد من الدراسات في المستقبل. وقد أصبح جليا أنه حتى جرعة واحدة من هذه اللقاحات توفر حماية كبيرة من فيروس كوفيد-19، على الرغم من أن بعض الخبراء في المنطقة يشيرون إلى أن هناك حاجة إلى جرعة ثانية من اللقاحات لتطوير استجابة وذاكرة مناعية قوية.
بالإضافة إلى ذلك وجد الباحثون مستويات أعلى بكثير من الأجسام المضادة والاستجابة من جانب الخلايا التائية بعد جرعة ثالثة من لقاح أكسفورد “أسترازينيكا” مقارنة بالوضع بعد الجرعة الثانية. وهذا مهم بشكل خاص لأن جرعة ثالثة من اللقاح أدت إلى زيادة في إنتاج الأجسام المضادة مقارنة بالجرعة الثانية مقارنة بسلالات ألفا (ب 1.1.7) وبيتا (ب 1.351) ودلتا (ب 1.617.2) من متغيرات سارس-كوف-2.
واختصارا نقول إنه يمكن التوصية بإعطاء جرعتين من اللقاحات كأمر ضروري لأولئك الذين يحتاجون إليها خلال الفترات الزمنية التي يتم الاختبار فيها إذا توفرت كميات أو جرعات كافية من اللقاحات. وفي حال لم يكن هذا ممكنا، فإن تأخير الجرعة الثانية بمدى معين يعد أمرا مقبولا، بل يمكن أن يكون للتأخير في بعض اللقاحات فوائد لتوفير حماية أكبر من فيروس كوفيد-19.