مقالات

لا نكبة بعد اليوم.. بل تحريرٌ وعودة

أحمد الحيلة

اعتاد الفلسطينيون على إحياء ذكرى نكبتهم من كل عام في الخامس عشر من أيار/ مايو، والتي مرّت ذكراها الثالثة والسبعون قبل أيامٍ، في خضم العدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة، وعلى المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح في القدس، وعلى الضفة الغربية، وعلى شعبنا في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 الذي يمثّل عمق الذاكرة والاتصال بأرض الوطن.

صورة اعتبرها البعض استمراراً اعتيادياً لنكبة الشعب الفلسطيني منذ العام 1948، موسومة باستمرار القتل والتدمير والعبث والتعالي الصهيوني على القيم الإنسانية، بدعم أمريكي أوروبي مشفوع بصمت عربي رسمي غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية.

لكن بالنظر إلى المشهد من زاوية أخرى، فإننا نعتقد بأن القضية الفلسطينية تشهد تطوراً نوعياً استراتيجياً يستحق معه إعادة توصيف وتسمية المرحلة التاريخية الراهنة والبناء عليها، لأن الأجيال اليوم تحتاج لقوة دفع وتحفيز نحو الهدف، انطلاقاً من واقع تغيّر ويستحق التقدير. وفي هذا السياق نتوقف عند بعض الشواهد الهامة على النحو التالي:

أولاً: وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تحت قبة المسجد الأقصى وخلف القدس، لا سيّما الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948 الذين أثبتوا أصالة انتمائهم وأفشلوا ساسيات الاحتلال الرامية إلى طمس هويتهم الوطنية، وكي وعيهم بالترويج لفكرة المواطنة في دولة احتلال عنصري كولونيالي.

وهذا يعدّ انتصاراً فلسطينياً نوعياً استراتيجياً بإسقاط مخططات الاحتلال التي عمل عليها على مدار سبعين عاماً، والتي حاول بها تقسيم الفلسطينيين وزرع الفرقة بينهم على قاعدة اختلاف سلّم أولوياتهم الوطنية؛ على قاعدة أن الفلسطيني في غزة لغزة تحت الحصار بسبب المقاومة، والفلسطيني في الضفة الغربية يخضع لمشروع أوسلو والسلطة الأمنية ولا علاقة له بغزة، والفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 48 ابنٌ للدولة العبرية ولا علاقة له بغزة أو الضفة، والفلسطيني في القدس ابنٌ للتشتت والحيرة بين المقاومة والتسوية والمواطنة الإسرائيلية.

تلك السياسات الاحتلالية الخبيثة بدأت تنهار اليوم بوحدة وبرمزية وعظمة القدس في الوجدان والعقل الجمعي الفلسطيني الذي استيقظ مارداً من تحت الرماد.

ثانياً: الاستفتاء والتصويت للمقاومة؛ فبعد أن ألغت سلطة أوسلو الانتخابات الفلسطينية بذريعة رفض الاحتلال لإجرائها في القدس، خرجت الجماهير في ساحات المسجد الأقصى تُعلن مبايعتها للمقاومة، كما خرجت الجماهير في الطيبة وأم الفحم واللد والرملة ويافا وعكا تشهر انتماءها وتأييدها لخط المقاومة، شاهرين أيديهم العارية في وجه حرس الحدود وشرطة الاحتلال.

كما كسر الفلسطينيون في الضفة الغربية قواعد السيطرة الأمنية لسلطة أوسلو التي أخذت على عاتقها صد وإخماد أي حراك ضد الاحتلال، فخرجت الجماهير من الخليل إلى نابلس وفي كافة المدن والقرى تقدم الشهيد والجريح على درب المقاومة الذي عبّرت عنه في غزة؛ بقطع يد الصهاينة التي حاولت تدنيس المسجد الأقصى أو المساس بالعائلات الفلسطينية في حي الشيخ جرّاح، عبر إنذارها الاحتلال أولاً ومن ثم قصفه في القدس المكان، والزمان الساعة السادسة مساء في العاشر من أيار/ مايو الجاري، معلنة بذلك انطلاق مرحلة جديدة من المقاومة المسلحة والشعبية على امتداد كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ثالثاً: وحدة الشعب الفلسطيني خلف القدس ودفاعاً عن حقوقهم الوطنية؛ أحيت القضية في وجدان الشعوب العربية رغم ما تعانيه من أزمات أمنية واقتصادية في أقطارها. كما أحيت القضية في ضمائر الأحرار في العالم الذين خرجوا للتعبير عن تضامنهم مع فلسطين في عمّان، وبيروت، وبغداد، وتونس، والكويت، وقطر، ولندن، وباريس، وبرلين، وواشنطن، ونيويورك، والدول الاسكندنافية، بعد أن انكشفت صورة الاحتلال البشعة الملطخة بدماء الأطفال الذين قضوا ضحايا جرّاء العدوان على غزة، وعلى إثر انفضاح صورة الاحتلال العنصري وهو يعتدي على شابات وشباب حي الشيخ جراح في القدس والمسجد الأقصى وباب العامود، ناهيك عن وحشيته في التعامل مع المظاهرات الشعبية في الضفة الغربية والمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948.

اليوم الواقع يتغيّر بعمق نتيجة لاستعادة الفلسطينيين وحدتهم خلف القدس والمقاومة التي أكدت مجدداً بأنها قلعة لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، وللدفاع عن حقوقهم الوطنية. وما استجابة الشعب الفلسطيني على امتداد جغرافيا الوطن لنداء الإضراب العام والاشتباك مع الاحتلال الذي دعت له كافة القوى والأطر الأهلية في 18 أيار/ مايو؛ إلا تعبير عن القناعة بالمقاومة خياراً وطنياً، وإسقاطاً لفكرة أوسلو والتعايش مع الاحتلال الذي يحار في كيفية التصدي لهذا العنفوان الشعبي الجارف الذي يعيدنا بالذاكرة إلى الإضراب الفلسطيني الكبير عام 1936، والذي يعيدنا بالذاكرة إلى أصل الحكاية؛ شعبٌ ينشد حريته ولسان حاله يقول: نحن فلسطينيون وأبناء فلسطين، وفلسطين لنا والقدس لنا، ولن نقبل باحتلالٍ على أيّ شبر من أرضنا مهما طال الزمن.

أمام هذه اللوحة الثورية الوطنية الاستثنائية، يحق للشعب الفلسطيني أن يستبدل ذكرى إحياء النكبة الأليمة بإعلان العاشر من أيار/ مايو 2021 يوماً احتفالياً بانطلاق مرحلة التحرير والعودة.. العاشر من أيّار/ مايو ذكرى التلاحم الوطني في الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية، ذكرى قطع اليد الصهيونية التي حاولت المس بالمسجد الأقصى وبالعائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح، ذكرى انبعاث الهوية الوطنية في فلسطين المحتلة عام 1948، ذكرى انطلاق الضفة الغربية وتصويتها بدماء أبنائها للمقاومة بعد تخطيها حواجز اتفاقيات أوسلو وأجهزتها الأمنية، ذكرى الصمود الأسطوري لغزة وانتصار المقاومة على الاحتلال بكسر هيبة جيشه الذي طالما تغنى بقدراته القتالية وتفوقه النوعي.. ذكرى امتلاك الفلسطينيين زمام المبادرة وأخذهم خطوة جماعية نحو التحرير والعودة التي باتت نبضاً يدق حنيناً في عروق الفلسطينيين نحو القدس، نحو فلسطين، نحو أرض التين والزيتون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى